
شهدت الأسواق المالية العالمية خلال عام 2025 تحولًا نوعيًا في طريقة تعامل وول ستريت مع العملات الرقمية، بعد أن لعبت صناديق المؤشرات المتداولة دور المكانة الأكثر قبولًا بين عالم الكريبتو والنظام المالي التقليدي.
هذه الصناديق لم تكن مجرد أدوات استثمار جديدة، بل مثلت تغييرًا في الفلسفة التنظيمية الأمريكية تجاه الأصول الرقمية، خاصة مع تبني هيئة الأوراق المالية والبورصات نهجًا أكثر مرونة مقارنة بالسنوات السابقة.
فبعد معارك طويلة خاضها مديرو الأصول لإطلاق منتجات تتبع السعر الفوري لبيتكوين وإيثريوم، بدأ المشهد التنظيمي يتغير تدريجيًا، بالتزامن مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير، وما رافق ذلك من خطاب سياسي أقل عداءً تجاه الابتكار المالي والأسواق البديلة.
هذا التحول انعكس بوضوح في أداء صناديق بيتكوين المتداولة، التي سجلت منذ إطلاقها في يناير 2024 وحتى منتصف ديسمبر 2025 صافي تدفقات تجاوز 57.7 مليار دولار، بزيادة تقارب 59% مقارنة ببداية العام.
غير أن هذه الأرقام الكبيرة أخفت خلفها واقعًا أكثر تعقيدًا، حيث لم تكن التدفقات ثابتة أو مستقرة، بل شديدة الارتباط بحركة الأسعار والمزاج العام للأسواق.
فعندما اقتربت بيتكوين من مستويات قياسية فوق 126 ألف دولار في أكتوبر، اندفع المستثمرون بقوة، وضخوا أكثر من مليار دولار في يوم واحد، في مشهد عكس عقلية “اللحاق بالفرصة”.
لكن هذا التفاؤل سرعان ما انقلب إلى حذر عندما تراجعت الأسعار لاحقًا، ما دفع المستثمرين إلى سحب مئات الملايين خلال أيام قليلة، مؤكدين أن الطابع المضاربي لم يختفِ تمامًا رغم الطابع المؤسسي لهذه الأدوات.
في المقابل، بدت تجربة صناديق إيثريوم المتداولة أكثر هدوءًا وأقرب إلى الاستثمار طويل الأجل.
ومنذ إطلاقها في يوليو 2025، جذبت هذه الصناديق تدفقات تجاوزت 12.6 مليار دولار، مستفيدة من النظرة إلى إيثريوم ليس فقط كعملة رقمية، بل كبنية تحتية لتطبيقات مالية وتجارية واسعة.
ومع اقتراب سعر العملة من أعلى مستوياته التاريخية في أغسطس الماضي، شهدت الصناديق تدفقات يومية ضخمة، عكست ثقة متزايدة في الدور المستقبلي للشبكة.
وكشف هذا التباين بين بيتكوين وإيثريوم اختلافًا جوهريًا في عقلية المستثمرين: الأولى تُعامل كأصل تحوطي أو مخزن للقيمة، بينما الثانية تُرى كاستثمار في التكنولوجيا والاقتصاد الرقمي.
ورغم هذه التدفقات اللافتة، فإن دخول المؤسسات إلى سوق الكريبتو لم يكن صاخبًا أو استعراضيًا.
وعلى العكس، تم هذا الدخول بهدوء نسبي، عبر قنوات منظمة ومألوفة مثل صناديق المؤشرات، ما سمح للبنوك وشركات الاستثمار بتقليل المخاطر التنظيمية والتشغيلية.
وفي الوقت الذي ركز فيه المستثمرون الأفراد على صناديق تتبع عملة واحدة، بدأت المؤسسات تميل إلى منتجات أكثر تنوعًا، مثل الصناديق التي تتبع سلة من العملات الرقمية، باعتبارها أدوات أكثر ملاءمة لإدارة المخاطر ضمن محافظ كبيرة ومعقدة.
لكن التحول الأكثر تأثيرًا جاء في سبتمبر، عندما أقرت هيئة الأوراق المالية الأمريكية معايير إدراج عامة لصناديق السلع، وهو قرار أنهى عمليًا سنوات من الغموض حول كيفية تصنيف الأصول الرقمية.
وبدلًا من الاضطرار إلى البت في كل طلب على حدة، والإجابة في كل مرة عن سؤال ما إذا كانت العملة الرقمية ورقة مالية أم سلعة، وضعت الهيئة إطارًا عامًا يحدد شروط الأهلية.
هذا القرار جاء بعد تراكم كبير في طلبات إطلاق صناديق تغطي طيفًا واسعًا من الأصول الرقمية، ومع تزايد الضغط من الأسواق والمؤسسات الباحثة عن وضوح تنظيمي طال انتظاره.
كما ركزت المعايير الجديدة على عناصر مثل التداول في أسواق خاضعة للرقابة، ووجود سجل تداول للعقود الآجلة لمدة كافية، أو ارتباط الأصل بصندوق متداول قائم وذو حجم مؤثر.
وبهذا، انتقلت الهيئة من سياسة التعامل مع الكريبتو كحالة استثنائية إلى دمجه ضمن الأطر التنظيمية القائمة، دون خنق الابتكار أو فتح الباب على مصراعيه للمخاطر غير المحسوبة.
اقتصاديًا، تعكس هذه التطورات تحولًا أعمق من مجرد إطلاق منتجات مالية جديدة. فهي تشير إلى أن العملات الرقمية بدأت تفقد صفة “الظاهرة الهامشية”، لتصبح جزءًا من النظام المالي العالمي، بكل ما يحمله ذلك من فرص ومخاطر.
هذا التنظيم يمنح الشرعية ويجذب رؤوس الأموال، لكنه في الوقت نفسه يربط سوق الكريبتو بشكل أوثق بدورات الاقتصاد الكلي، وأسعار الفائدة، والتقلبات الجيوسياسية، ما يعني أن تقلباته لن تختفي، بل ستأخذ شكلًا مختلفًا.
ولم تجعل صناديق المؤشرات المتداولة العملات الرقمية أكثر استقرارًا، لكنها جعلتها أكثر اندماجًا في قلب وول ستريت.
ومع وضوح القواعد التنظيمية، لم يعد السؤال المطروح هو ما إذا كانت المؤسسات ستدخل سوق الكريبتو، بل إلى أي مدى، وبأي سرعة، وكيف سيؤثر هذا الدمج على طبيعة السوق نفسها في السنوات المقبلة.






