شهد الاقتصاد الأمريكي خلال الربع الأول من عام 2024 اتساعاً ملحوظاً في عجز الحساب الجاري، ليبلغ مستويات غير مسبوقة، وهو ما أعاد إلى الواجهة تساؤلات عميقة حول مدى استدامة النمو الاقتصادي الأمريكي في ظل تفاقم الاختلالات المالية، وارتفاع الاعتماد على التدفقات الرأسمالية الأجنبية.
وقد ربط كثير من المحللين بين ما يجري حالياً وما سبق الأزمة المالية العالمية في 2008، محذرين من أن التاريخ قد يعيد نفسه ولكن بصيغ جديدة.
عجز تاريخي في الحساب الجاري
وفقاً للبيانات الرسمية الصادرة عن مكتب التحليل الاقتصادي التابع لوزارة التجارة الأمريكية، قفز العجز في الحساب الجاري خلال الربع الأول من العام الجاري بمقدار 138.2 مليار دولار على أساس سنوي، بنسبة ارتفاع بلغت 44.3%، ليصل إجمالي العجز إلى 450.2 مليار دولار، وهو أعلى مستوى يتم تسجيله منذ بدء جمع البيانات.
ويمثل هذا العجز ما نسبته 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى منذ الربع الثالث من عام 2006، عندما بلغ العجز 6.3%، قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية بعامين فقط.
هذه الأرقام تكشف عن اتساع الفجوة بين ما تستهلكه الولايات المتحدة من سلع وخدمات أجنبية وبين ما تصدره إلى العالم.
ميزان المدفوعات: تدفقات رأسمالية تقابل العجز
من الناحية المحاسبية، يقابل كل عجز في الحساب الجاري فائض في الحساب الرأسمالي، حيث تدخل رؤوس الأموال الأجنبية إلى الولايات المتحدة لتغطية العجز عبر شراء الأصول الأمريكية، مثل السندات والأسهم والودائع.
وقد شهد الربع الأول من 2024 تدفقات رأسمالية ضخمة، أدت إلى ارتفاع التزامات الولايات المتحدة تجاه الأجانب بمقدار 843.7 مليار دولار، في وقت زادت فيه الأصول الأمريكية بالخارج بنحو 524.9 مليار دولار.
وقد تركزت التدفقات في أدوات الدين طويلة الأجل والأسهم، وهو ما ساهم في دعم الأسواق المالية الأمريكية مؤقتاً، لكنّه في ذات الوقت زاد من حساسية الاقتصاد المحلي تجاه التحولات في شهية المستثمرين العالميين.
اتساع العجز في مركز الاستثمار الدولي
انعكست هذه التحولات على صافي مركز الاستثمار الدولي للولايات المتحدة، وهو الفارق بين ما يملكه الأمريكيون من أصول مالية في الخارج وما تملكه الجهات الأجنبية داخل الولايات المتحدة.
فقد بلغ صافي العجز في هذا المركز بنهاية الربع الأول من 2024 نحو 26.23 تريليون دولار، ما يمثل حوالي 90% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ 19.85 تريليون دولار في نهاية عام 2023.
وتُعزى هذه الزيادة الحادة إلى ارتفاع التزامات الولايات المتحدة إلى 62.12 تريليون دولار، نتيجة عمليات شراء الأجانب للأسهم والسندات الأمريكية، في مقابل ارتفاع الأصول الأمريكية إلى 35.89 تريليون دولار فقط.
مخاطر الاعتماد المفرط على التمويل الأجنبي
يحذر خبراء اقتصاديون من أن هذا النموذج من الاعتماد على التدفقات الأجنبية قد يحمل مخاطر كبيرة على الاستقرار المالي للولايات المتحدة.
ويرى جورج سارافيلوس، كبير محللي العملات في "دويتشه بنك"، أن ارتفاع العجز إلى هذا الحد يعكس اعتماداً متزايداً على المدخرات الخارجية، مما قد يقيد السياسات النقدية والمالية الأمريكية في المستقبل، ويجعل الاقتصاد أكثر عرضة للتقلبات العالمية.
تشابه مقلق مع أزمة 2008
يشير العديد من المحللين إلى أوجه الشبه المتزايدة بين الوضع الحالي وتلك الفترة التي سبقت الأزمة المالية العالمية في 2008.
فكما حصل آنذاك، تسهم الفوائض المالية العالمية – خاصة من آسيا ودول الخليج – في ضخ رؤوس الأموال إلى الأسواق الأمريكية، مما يؤدي إلى تضخم أسعار الأصول دون نمو حقيقي في الإنتاجية أو التنافسية.
وقد ساهمت هذه الفوائض سابقاً في تغذية فقاعة العقارات والأدوات المالية المرتبطة بها، والتي انهارت لاحقاً محدثة أزمة عالمية. ومع تكرار نمط الاعتماد على التدفقات الأجنبية لتغطية العجز الداخلي، يزداد القلق من إمكانية حدوث أزمة مالية جديدة.
جذور الخلل الاقتصادي: هل هي داخلية أم خارجية؟
لا يزال الجدل قائماً بين الخبراء حول جذور هذه الاختلالات. فهناك من يرى أن المشكلة تكمن في تراجع تنافسية الاقتصاد الأمريكي وارتفاع سعر صرف الدولار، مما يضعف من جاذبية الصادرات الأمريكية ويزيد من اعتماد السوق على الواردات.
في المقابل، يرى آخرون أن السبب يعود إلى فائض الادخار في بعض الاقتصادات العالمية، خاصة في شرق آسيا، مما يدفع هذه الدول إلى استثمار فوائضها المالية في السوق الأمريكية باعتبارها الأكثر أماناً.
خلاصة وتوصيات
تؤكد هذه البيانات أن الاقتصاد الأمريكي يواجه تحديات هيكلية تتطلب معالجات عميقة تتجاوز السياسات النقدية والمالية قصيرة الأجل. ويحتاج صناع القرار إلى إعادة تقييم العلاقة بين الإنفاق والعجز التجاري والاعتماد على التمويل الأجنبي، بما يضمن تحقيق نمو أكثر توازناً واستدامة على المدى الطويل.
وفي حال استمرار هذا المسار دون تصحيح، فإن الأسواق العالمية قد تشهد تقلبات حادة في أسعار الأصول، وتراجعاً في الثقة بالدولار، بما يعيد إلى الأذهان تداعيات الانهيار المالي الذي ضرب النظام العالمي قبل أقل من عقدين.